فصل: تفسير الآيات (36- 38):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (24- 27):

{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}
{سلام عَلَيْكُمُ} في موضع الحال إذ المعنى قائلين سلام عليكم أو مسلمين {بِمَا صَبَرْتُمْ} متعلق بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم أي هذا الثواب بسبب صبركم عن الشهوات أو على أمر الله أو بسلام أي نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم والأَول أوجه {فَنِعْمَ عقبى الدار} الجنات {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه} من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} بالكفر والظلم {أولئك لَهُمُ اللعنة} الإبعاد من الرحمة {وَلَهُمْ سُوءُ الدار} يحتمل أن يراد سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة عقبى الدار وأن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} أي ويضيق لمن يشاء والمعنى الله وحده وهو يبسط الرزق ويقدر دون غيره {وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا} بما بسط لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم ولم يقابلوه بالشكر حتى يؤجروا بنعيم الآخرة {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ متاع} وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نزراً يتمتع به كعجلة الراكب وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ} أي الآية المقترحة {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء} باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} ويرشد إلى دينه من رجع إليه بقلبه.

.تفسير الآيات (28- 31):

{الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}
{الذين آمنوا} هم الذين أو محله النصب بدل مِن {مِن} {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} تسكن {بِذِكْرِ الله} على الدوام أو بالقرآن أو بوعده {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} بسبب ذكره تطمئن قلوب المؤمنين {الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} مبتدأ، {طوبى لَهُمْ} خبره وهو مصدر من طاب كبشرى ومعنى طوبى لك أصبت خيراً وطيباً ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيباً لك وطيب لك وسلاماً لك وسلام لك. واللام في {لهم} للبيان مثلها في سقيا لك والواو في {طوبى} منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها كموقن والقراءة في {وَحُسْنُ مَئَابٍ} مرجع. بالرفع والنصب تدل على محليها {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} مثل ذلك الإرسال أرسلناك إرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات ثم فسر كيف أرسله فقال: {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} أي أرسلناك في أمة قد تقدمتها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء {لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الذي أوحينا إليك {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} وحال هؤلاء أنهم يكفرون {بالرحمن} بالبليغ الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء {قُلْ هُوَ رَبّي} ورب كل شيء {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي هو ربي الواحد المتعالي عن الشركاء {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في نصرتي عليكم {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} مرجعي فيثيبني على مصابرتكم. {متابي} و{عقابي} و{مآبي} في الحالين: يعقوب.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} عن مقارِّها {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} حتى تتصدع وتتزايل قطعاً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف فجواب (لو) محذوف. أو معناه ولو أن قرآناً وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأَرض وتكليم الموتى وتنبيهم لما آمنوا به ولما تنبهوا عليه كقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة} [الأنعام: 111] الآية {بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا} بل لله القدرة على كل شيء وهو قادر على الآيات التي اقترحوها {أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الذين ءَامَنُواْ} أفلم يعلم وهي لغة قوم من النخع وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه لأَن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون كما استعمل النسيان في معنى الترك لتضمن ذلك، دليله قراءة علي رضي الله عنه {أفلم يتبين} وقيل إنما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السنات وهذه والله فرية ما فيها مرية {أَن لَّوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} من كفرهم وسوء أعمالهم {قَارِعَةٌ} داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم وأموالهم {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ} أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويتطاير عليهم شررها ويتعدى إليهم شرورها {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} أي موتهم أو القيامة أو ولا يزال كفار مكة تصيبهم بما صنعوا برسول الله من العداوة والتكذيب قارعة لأن جيش رسول الله يغير حول مكة ويختطف منهم أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك يوم الحديبية حتى يأتي وعد الله أي فتح مكة {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} أي لا خلف في موعده.

.تفسير الآية رقم (32):

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)}
{وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} الإملاء الإمهال وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} وهذا وعيد لهم وجواب عن اقتراحهم الآيات على رسول الله استهزاءً به وتسلية له.

.تفسير الآيات (33- 35):

{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} احتجاج عليهم في إشراكهم بالله يعني أفالله الذي هو رقيب {على كُلّ نَفْسٍ} صالحة أو طالحة {بِمَا كَسَبَتْ} يعلم خيره وشره ويعد لكل جزاءه كمن ليس كذلك. ثم استأنف فقال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} أي الأصنام {قُلْ سَمُّوهُمْ} أي سموهم له من هم ونبئوه بأسمائهم ثم قال: {أَمْ تُنَبّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في الأرض} على {أم} المنقطعة أي بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السماوات والأرض فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء والمراد نفي أن يكون له شركاء {أَم بظاهر مّنَ القول} بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة كقوله {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} [التوبه: 30] {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَآ} [يوسف: 40] {بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} كيدهم للإسلام بشركهم {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} عن سبيل الله بضم الصاد كوفي وبفتحها غيرهم ومعناه وصدوا المسلمين عن سبيل الله {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} من أحد يقدر على هدايته {لَّهُمْ عَذَابٌ في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر وأنواع المحن {وَلَعَذَابُ الأخرة أَشَقُّ} أشد لدوامه {وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ} من حافظ من عذابه.
{مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} صفتها التي هي في غرابة المثل وارتفاعه بالابتداء والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم مثل الجنة أو الخبر {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تقول صفة زيد أسمر {أُكُلُهَا دَائِمٌ} ثمرها دائم الوجود لا ينقطع {وِظِلُّهَا} دائم لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس {تِلْكَ عقبى الذين اتقوا} أي الجنة الموصوفة عقبى تقواهم يعني منتهى أمرهم {وَّعُقْبَى الكافرين النار}

.تفسير الآيات (36- 38):

{وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)}
{والذين ءاتيناهم الكتاب} يريد من أسلم من اليهود كابن سلام ونحوه ومن النصارى بأرض الحبشة {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحزاب} أي ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب وأشياعهما {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم وكانوا ينكرون نبوة محمد عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه من الشرائع {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ} هو جواب للمنكرين أي قل إنما أمرت فيما أنزل إلى بأن أعبد الله ولا أشرك به فإنكاركم له إنكار لعبادة الله وتوحيده فانظروا ماذا تنكرون مع ادعائكم وجوب عبادة الله وأن لا يشرك به {إِلَيْهِ ادعوا} خصوصاً لا أدعو إلى غيره {وَإِلَيْهِ} لا إلى غيره {مَئَابٍ} مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لإنكاركم {وكذلك أنزلناه} ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه والإنذار بدار الجزاء {حُكْمًا عَرَبِيّا} حكمة عربية مترجمة بلسان العرب وانتصابه على الحال كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يشاركهم فيها فقيل {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} أي بعد ثبوت العلم بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة {مَالَكَ مِنَ الله مِن وَلِىّ وَلاَ وَاقٍ} أي لا ينصرك ناصر ولا يقيك منه واق وهذا من باب التهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين وأن لا يزال زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الثبات بمكان. وكانوا يعيبونه بالزواج والولاد ويقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ فنزل {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} نساءاً وأولاداً {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي ليس في وسعه إتيان الآيات على ما يقترحه قومه وإنما ذلك إلى الله {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} لكل وقت حكم يكتب على العباد أي يفرض عليهم على ما تقتضيه حكمته.

.تفسير الآيات (39- 40):

{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}
{يَمْحُو الله مَا يَشَاء} ينسخ ما يشاء نسخه {وَيُثَبِّتُ} بدله ما يشاء أو يتركه غير منسوخ أو يمحو من ديوان الحفظة ما يشاء ويثبت غيره أو يمحو كفر التائبين ويثبت إيمانهم أو يميت من حان أجله وعكسه {ويثبّت} مدني وشامي وحمزة وعلي {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل كائن مكتوب فيه {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} وكيفما دارت الحال أريناك مصارعهم وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم أو توفيناك قبل ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} فيما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة فحسب {وَعَلَيْنَا الحساب} وعلينا حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم لا عليك فلا يهمنك إعراضهم ولا تستعجل بعذابهم {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض} أرض الكفرة {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} بما نفتح على المسلمين من بلادهم فننقص دار الحرب ونزيد في دار الإسلام وذلك من آيات النصرة والغلبة، والمعنى عليك البلاغ الذي حملته ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من النصرة والظفر {والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} لا راد لحكمه والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقبه أي يقفيه أي بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس، ومحل {لا معقب لحكمه} النصب على الحال كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه كما تقول: جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة له تريد حاسراً {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} فعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا.

.تفسير الآيات (41- 43):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
{وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي كفار الأمم الخالية بأنبيائهم والمكر إرادة المكروه في خفية ثم جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره فقال: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} ثم فسر ذلك بقوله {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار} يعني العاقبة المحمودة لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو المكر كله لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة عما يراد بهم الكافر. على إرادة الجنس حجازي وأبو عمرو.
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} المراد بهم كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود قالوا: لست مرسلاً ولهذا قال عطاء هي مكية إلا هذه الآية {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} بما أظهر من الأدلة على رسالتي والباء دخلت على الفاعل و{شهيداً} تمييز {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} قيل هو الله عز وجل، والكتاب: اللوح المحفوظ دليله قراءة من قرأ {ومن عنده علم الكتاب} أي ومن لدنه علم الكتاب لأن علم من علمه من فضله ولطفه، وقيل ومن هو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته في كتبهم وقال ابن سلام: فيّ نزلت هذه الآية وقيل هو جبريل عليه السلام و{من} في موضع الجر بالعطف على لفظ {الله} أو في موضع الرفع بالعطف على محل الجار والمجرور إذ التقدير كفى الله وعلم الكتاب يرتفع بالمقدر في الظرف فيكون فاعلاً لأن الظرف صلة ل {من} و{من} هنا بمعنى الذي والتقدير من ثبت عنده علم الكتاب وهذا لأن الظرف إذا وقع صلة يعمل عمل الفعل (نحو مررت بالذي في الدار أخوه) فأخوه فاعل كما تقول (بالذي استقر في الدار أخوه) وفي القراءة بكسر ميم {من} يرتفع العلم بالابتداء.

.سورة إبراهيم:

مكية: اثنتان وخمسون آية.

.تفسير الآيات (1- 3):

{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)}
{آلر كِتَابٌ} هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب يعني السورة، والجملة التي هي {أنزلناه إِلَيْكَ} في موضع الرفع صفة للنكرة {لِتُخْرِجَ الناس} بدعائك إياهم {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من الضلالة إلى الهدى {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} بتيسيره وتسهيله مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب وذلك ما يمنحهم من التوفيق {إلى صراط} بدل من {النور} بتكرير العامل {العزيز} الغالب بالانتقام {الحميد} المحمود على الإنعام {الله} بالرفع مدني وشامي على هو {الله} وبالجر غيرهما على أنه عطف بيان للعزيز الحميد {الذى لَهُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض} خلقاً وملكاً. ولما ذكر الخارجين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان توعد الكافرين بالويل وهو نقيض الوأل وهو النجاة وهو اسم معنى كالهلاك فقال: {وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} وهو مبتدأ وخبر، وصفة {الذين يَسْتَحِبُّونَ} يختارون ويؤثرون {الحياة الدنيا عَلَى الأخرة وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عن دينه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يطلبون لسبيل الله زيغا واعوجاجاً والأصل ويبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل. {الذين} مبتدأ خبره {أُوْلَئِكَ في ضلال بَعِيدٍ} عن الحق. ووصف الضلال بالبعد من الإسناد والمجازي والبعد في الحقيقة للضال لأنه هو الذي يتباعد عن طريق الحق فوصف به فعله كما تقول جد جده، أو مجرور صفة للكافرين، أو منصوب على الذم أو مرفوع على أعني الذين أوهم الذين.